-A +A
بشرى فيصل السباعي
ربما لا يعرف كثيرون أن معضلة الجماعات الدينية التي تسعى لإقامة خلافة عالمية لم تبدأ بالجماعات الإسلامية، فأقدم جماعات مارست جميع ما مارسته الجماعات الإسلامية من إرهاب باسم إقامة الخلافة كانت الجماعات اليهودية التي أيضا رفعت شعار الحاكمية لله وإقامة خلافة عالمية وتكفير وقتل كل من ليس من جماعتهم، رغم أنهم على دينهم كجماعة Sicarii «سيكاري» اليهودية، وكانت ردات أفعال السلطات الرومانية على عملياتهم وثوراتهم سبب تدمير معبد الهيكل والقدس واضطهاد اليهود بعد أن كانوا يتمتعون بحقوق كاملة، والسبب الرئيسي لتكذيب اليهود للمسيح يكمن برده على انتظارهم إقامة المسيح خلافة عالمية تحكم العالم «الانجيل/‏ لوقا 17: 20-21»، «ولما سأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله/‏الخلافة؟ أجابهم وقال: لا يأتي ملكوت الله بالترقب، ولا يقولون: هوذا ههنا، أو: هوذا هناك، لأن ملكوت الله داخلكم». فالمسيح قال لهم إن الخلافة الدينية تكون داخل الإنسان وليست جماعة تظهر هنا أو هناك لتشكل سلطة عالمية، ويؤمن اليهود أن الله حكم عليهم بالنفي من فلسطين وأن لا يقيموا دولة حتى يظهر المسيح ويقيمها ربما عقوبة لهم على هوسهم بتسييس الدين، والآية عن مبدأ الخلافة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) ذكرته بمفهوم دور الرعاية للأرض وما فيها من مخلوقات وليست كسلطة سياسية عسكرية تفرض هيمنتها بالعنف، ولازالت ردة فعل الجماعات الإرهابية على هذا المفهوم للخلافة هو التكفير والقتل كما كان حال الجماعات الإرهابية اليهودية، والفارق بين المفهومين للخلافة الدينية يمثل الفارق بين الخير والشر؛ لأن مفهوم الخلافة كسلطة عالمية حربية يعني اقتراف جرائم قتل جماعية للشعوب عبر الإرهاب والحروب لإخضاعهم لسلطة أجنبية وهذا يجعل القائمين به سفاحون ومجرمون وأشرار كالدواعش الذين صار مسمى جماعتهم بمثابة سبة هناك من رفع قضايا بالمحاكم ضد من رماه بها، بينما مفهوم الخلافة كتكليف فردي برعاية الخلق تجعل للإنسان حس الرسالة بمسلكه الخاص والعام الذي يهدف إلى نفع وإفادة الخلق جميعا وليس فقط البشر وهذا يجعل القائمين به تجسدا لمفهوم الخيرية والإحسان، بالحديث «رجعنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب» البيهقي. «ألا أخبركم بالمؤمن: من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» ابن حبان. ويمكن تصور كم كان واقع المسلمين سيكون مختلفا لو أن الشائع بالأدبيات الدينية كان مفهوم الخلافة والجهاد الداخلي الذي يجعل الإنسان يسلك طريق تزكية وترقية وتطوير الذات وتكريسها على المثاليات العليا والإحسان ونفع الخلق، بدل المنظور السياسي السلطوي الحربي للخلافة والجهاد، فمقابل البرجين اللذين دمرتهما عملية القاعدة في أمريكا في 11 سبتمبر، تم تدمير واحتلال بلدين مسلمين، ومقابل عمليات الجماعات الإسلامية الإرهابية خلال العقدين الأخيرين تم تدمير مدن بكاملها كانت تتمركز فيها تلك الجماعات كالموصل والرقة وكذلك مقابل عمليات الجماعات في فلسطين تم تدمير المدن الفلسطينية وإبادة عشرات آلاف المدنيين والأطفال وإضعافهم من المشوهين والمعوقين والمعتقلين الذين يتعرضون للتعذيب تماما كما فعلت السلطات الرومانية باليهود عندما قامت الجماعات اليهودية بعمليات ضدها، متى سيستوعب المتحمسون أن رميهم حجرا على عش الدبابير لن يؤذي الدبابير إنما سيثيرهم على مهاجمة الأبرياء، ومن رماهم مسؤول عن نتائج ردة الفعل الانتقامية؛ فهم كانوا يعرفون أنه ستكون هناك ردة فعل انتقامية ضد المدنيين الفلسطينيين وأنه لا يمكن حتى استصدار قرار من الأمم المتحدة يدعو لوقف العمليات الحربية مهما توحشت ردة الفعل الإسرائيلية.